الصفحة اللاحقةالصفحة السابقة

شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

 

حديثٌ عن :

التشكيك والمشكّكين

ليلى في كربلاء بين الواقع والخرافة

دفاع عن الشهيد مطهّري


جرت تعديلات وإصلاحات على هذا الكتاب من قِبَل المؤلِّف ، الطبعة الثانية 1422 هـ . الموافق 2002 م . 


بسم الله الرحمن الرحيم

 

الإهداء :

بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله .

إلى سيّدي ومولاي حجّة الله على خلقه ، وبقيّته في أرضه ، إلى الذي لولاه لساخت الأرض بأهلها ، إلى الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ،  ظلماً وجوراً ،

إلى نور الإمامة ، وعبق النبوّة .

أرفع هذا الجهد المتواضع ، وأُقدّم هذه البضاعة المُزجاة .

غرّة ذي الحجّة 1420هجري

جعفر مرتضى العاملي

 

تذكير وتحذير

والحمد لله والصلاة والسلام على محمد وآله .

1ـ إنّ الهدف من هذا الكتاب هو : إلقاء الضوء على مدى صحّة الأدلة والشواهد التي وردت في كتاب ( الملحمة الحُسينيّة ) ، المجموع من خُطَبٍ وكتاباتٍ للعلاّمة الشهيد مطهّري (رحمه الله) ، والتي تحدّثت عن وجود خرافات وأكاذيب في تاريخ الحركة الجهاديّة المباركة للإمام الحسين (عليه السلام) ، وتبيان أنّ أكثر ما ذكروه لا يدخل في دائرة الأُسطورة ، أو الخرافة ، أو الأُكذوبة .

2ـ لقد تمّ التركيز على قضيّة حضور ليلى في كربلاء ، وإثبات عدم صحّة ما ذكروه سنداً ومعتمداً في ادّعائهم أنّ حضورها يدخل في دائرة الكذب ، أو الأُسطورة ...

3ـ لو سلّمنا أنّ البحث في قضيّة حضور ليلى في كربلاء ، ليس بذي قيمةٍ في حدّ ذاته ، إذ إنّ القيمة إنّما تكمن فيما تجسّده من عِبرة ، أو تثيره من عَبرة ، وتصبّ في حفظ أهداف حركة الإمام الحسين الجهاديّة .

ومن هنا ، فإنّ تصدّينا لبحث هذه القضيّة بالذات ؛ إنّما هو لأجل أنّها أصبحت تمثّل مدخلاً للطعن في قضايا عاشوراء ، فأردنا إسقاط العنوان العريض المتجسّد بها ، أعني به عنوان : ( الأُكذوبة والأُسطورة ) ! .

نعم لقد حاول البعض أن يجعل منها مدخلاً للطعن في صدقيّة أحداث كربلاء ، ومدخلاً للبعض ، للتّشكيك والهجوم الشرس على كلّ ما يورده قرّاء العزاء من أحداث كربلائيّة ، وما يعرضونه من مواقف الجهاد والتضحية والفداء .

4ـ قد تحدّثنا ـ أيضاً ـ عن مدى إمكانيّة الاعتماد على كتاب ( الملحمة الحُسينيّة ) المجموع من كتاباتٍ ومحاضراتٍ للشهيد العلاّمة المطهّري ، ومدى إمكانيّة نسبة ما في الكتاب المذكور من آراء إلى ذلك الشهيد السعيد .

 

تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمدٍ وآله الطيّبين الطاهرين ، واللّعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ، من الأوّلين والآخرين ، إلى قيام يوم الدين .

 

حملات التشكيك :

إنّ التاريخ يحدّثنا أنّ شيعة أهل البيت (عليهم السلام) كانوا في الأحقاب السالفة يواجهون في بعض البلاد متاعب ، ومصاعب ، وتحدياتٍ خطيرةٍ ، حتّى على مستوى الأمن في مناسبة عاشوراء .

ولكنّ هذه الظاهرة قد انحسرت ـ ولله الحمد ـ على وجه العموم ، وإن كنّا نجد بعض الإثارة لهذه الأجواء ، في بعض البلدان ، حتّى في أيّامنا هذه . ولكنّها أصبحت مرفوضةً ، ومحاصَرةً ، وممجوجةً ، لا يرضى بها الإنسان في القرن العشرين .

فكان أن استبدلوها بما هو أشرّ ، وأضرّ، وأخطر منها ، حينما حوّلوا المعركة إلى الجانب الإعلامي الذكي ، والهادف إلى إسقاط عاشوراء ، عن طريق إسقاط مضمونها ؛ وذلك بزرع بذور الشكّ ، والرّيب فيها ، فأصبحنا في كلّ سنةٍ ، وفي حلول موسم عاشوراء ، على وجه الخصوص ، نواجه حملةً شرسةً من هذا الإعلام المركّز والمدروس ، الذي يهدف إلى النيل من كربلاء ، من نواحٍ مختلفة ، وذلك عندما تبدأ التحذيرات ، ثمّ الاعتراضات ، ثمّ التشنيع القوي ، والتجريح الحاقد ، تتوالى وتنهمر ، إلى درجة أنّ الإنسان الشيعي يجدها ، ويسمعها ، ويقرأها ، ويواجهها في كلّ اتجاهٍ ، وفي أيّ موقعٍ ، وفي مختلف المناسبات .

وتصدر البيانات ، وتُلقى الخُطَب والمحاضرات ، وتلهج الإذاعات ، وتكتب الصحف والمجلاّت ، وتُبذل جميع الطاقات في هذا السبيل .

وأكثر الاهتمام ينصبّ على ثلاثة أُمور :

الأوّل :

الطعن في خطباء المنبر الحسيني ، ورميهم بالجهل ، والأُمّيّة ، وقذفهم بتهم الكذب ، والتزوير ، وقلّة الدِّين ، والتصنّع ، والتمثيل ، والاستعراض ، والتخلّف ، وما إلى ذلك ممّا تحويه مجاميعهم اللّغوية من شتائم مُقْذِعة ، وتعبيراتٍ جارحة .

الثاني :

التشكيك في مضمون المنبر الحسيني ، وأنّه يعتمد الخرافات ، و يروّج للأساطير ، وينشر الأباطيل ، وما إلى ذلك ممّا يحويه قاموسهم الغنيّ بهذا النوع من التعابير ، التي تؤدّي إلى عجز المنبر الحسيني عن أداء دوره الرسالي في تثقيف الناس ، وتربيتهم ، وتثبيتهم على خطّ الإيمان والجهاد ...

الثالث :

العمل على التخفيف من قيمة الارتباط العاطفي بعاشوراء ، ومضامينها العاطفيّة وذلك بازدراء حالات البكاء ، والتشنيع على مواكب العزاء ، وإدانة اللّطم على الصدور ، ورمي هذه المواكب بالتخلّف والتحجّر ، والإساءة إلى الدين ، وأنّها توجب احتقار العالم المتحضّر للمسلمين ، وانتقاده لهم ، والدعوة في مقابل ذلك إلى اللّطم الحضاري الهادئ ، والتوجّه ـ أيضاً ـ إلى العمل المسرحي ، والثقافي ، واختزال المشاهد العاطفيّة البكائيّة ، مهما أمكن ، لتصبح عاشوراء منبراً ثقافياً ، تنشأ فيه المحاضرات ، وتعقد ندوات ، تدار من قبل متخصصين ، ثمّ ( ما وراء عبادان قرية ) .

 

( وداؤك فيك وما تَشْعُرُ ) :

واللاّفت للنظر هنا : أنّنا قد نجد من بعض المخلصين ، ما يوحي بموافقتهم على هذا الأمر ، بل ، وبمشاركتهم فيه بنحوٍ أو بآخر …

ولو صحّ ما يُنسب إلى بعض المخلصين في هذا الاتجاه ، فإن إخلاصهم يكون هو الشافع لهم ؛ لأنّ ممّا لا ريب فيه أنّهم لو التفتوا إلى واقع الحال ، لكان موقفهم في خلاف هذا الاتجاه قطعاً .

وربّما يُذكر اسم الشهيد مطهّري في ضمن هؤلاء ، استناداً إلى ما ورد في كتاب ( الملحمة الحُسينيّة ) الذي جُمع بعد وفاته (رحمه الله) من كتاباته ، ومحاضراته .

كما أنّنا في مجال التفريق بين المخلص والحاقد ، وبين ما يرمي إليه الشهيد مطهّري ـ لو صحّ أنّه قال ما ذكروه عنه ـ نجد لزاماً علينا التّفريق بين نوعين من الناس ، وما أسهل التفريق والتمييز بينهما ، وهما :

النوع الأوّل :

نوع قضى حياته في البحث والتمحيص ، ونصرة هذا الدِّين ، والذّبّ عن حياضه وتأييده ، وتسديده بالدليل العلمي القاطع ، والبرهان الساطع ، وهو ملتزم بالطريق الوسطى التي هي الجادّة ، لا يكاد يحيد أو يشذّ عنها حتّى يعود إليها ...

ولا نشكّ في أنّ الشهيد مطهري هو من هذا الرعيل ، وقد استحقّ (رحمه الله) نتيجةً لهذا الجهد الصادق ، والجهاد التقي والنقي ، أن ينال وسام الثناء العاطر ، من قِبَل ذلك الرجل العظيم : آية الله العظمى روح الله الموسوي الخميني (قدّس الله سرّه الشريف) .

فإنّه (رحمه الله) حين وجد حالةً من الضياع لدى الشباب في قراءاتهم ؛ وجَّههم لقراءة مؤلّفات الشهيد مطهّري (رحمه الله) ، وكان توجيهاً صحيحاً وسديداً ، كما عوّدنا (رضوان الله تعالى عليه) . فما كتبه الشهيد مطهّري هو على العموم مقبولٌ وجيّدٌ بنظر آية الله العظمى الخميني (رحمه الله) .

أمّا المحاضرات فإنّ السيّد الخميني لم يستمع إليها جميعها ، ولم يتحدّث عنها ، ولا مجال للقول : إنّ الشهيد مطهّري (رحمه الله) معصوماً عن الخطأ ، مبرّأً من الزلل ، ولا أنّه قد أصاب كبد الحقيقة في كلّ كلمةٍ قالها ، وكلّ محاضرةٍ ألقاها ، ولا أن تكون كتبه هي والقرآن الكريم على حدٍّ سواء ، أو أن تكون على حدّ كلام الأنبياء ، والأئمّة الأصفياء (عليهم الصلاة والسلام) .

بل قد يخطئ هذا الشهيد العظيم المطهّري في الأُمور العلميّة ، كما يخطئ غيره فيها ، خصوصاً في أوائل حياته العلميّة ، ولأسبابٍ عديدةٍ أُخرى ، قد نُشير إلى بعضها .

فالمعيار هو المسار العام لهذا الشهيد السعيد ، الذي هو مسار الصدق والاستقامة على جادّة الحقّ ، والاهتمام بالبحث والتمحيص ، كما أنّ سِمَتَه العامّة هي اعتماد الدليل والبرهان سنداً ومعتمداً في معظم أطواره ، وفي اختيار الأعمّ الأغلب من أفكاره .

وذلك يفيدنا : أنّه حين يخطئ ، فإنّ ذلك لا يكون منه عن سوء نيّة ، ولا عن خبث طوّية ، ولا لدوافع شخصانيّة ، ولا لعُقَدٍ نفسيّة . كما هو حال الثاني ، الذي قد يكون بذلك كلّه ، أو ببعضه .

النوع الثاني :

وثَمّة نوعٌ آخر من الناس ، قد عوّدنا على إثارة الأُمور بطريقةٍ خطابيّةٍ ، تعتمد التعميمات ، وتنحو نحو الغموض ، بل إنّك لا تكاد تعثر له في كلّ حياته العلميّة ولو على موردٍ واحدٍ استقلّ ببحثه ، وتمحيصه ، استناداً إلى الدليل العلمي ...

رغم كثرة ما يُكتب ويُنشر ، ويُنظم ويُنثر ، غير أنّه يتميّز بسِماتٍ ثلاث :

الأُولى : تصيُّد شواذّ الأقوال من هنا وهناك ، وقد يعثر على بعض أدلّتها الواهية ، فيبادر إلى اختلاسها . ثم هو يجمع بين متفرّقات تلك الأقوال ، ويؤلّف بين مختلفاتها ، مضيفاً لها ما جال في خواطره ، ممّا يسانخه ، أو يشاطره حالة الشذوذ ، والبُعد عن الحقيقة ، وظهور الزيف والبطلان ، وقد يمتدّ به المدى إلى درجة أن يجتمع لديه ركام هائل ، يضمّ العشرات ، والمئات ، بل وربّما الآلاف من هذه المزاعم ، ولا يدري هو ولا غيره ، أين سينتهي به المطاف في نهاية الأمر .

الثانية : أنّك لا تجد عند هذا النوع من الناس ، إلا إدعاءات عريضة ، وخطابات رنّانة ، وشعارات فضفاضة ، وآراء تعدّ بالعشرات والمئات ، في مختلف شؤون الدِّين قد شذّ فيها عن طريقة علمائنا الأبرار ، وعن ثوابت المذهب وقطعيّاته ، وحاول من خلالها أن يقتحم المسلّمات على حدّ تعبيره . وعمدة ما يلجأ إليه في مقام التبرير والتملص ليس هو الآية ولا الرواية ولا غير ذلك من الأدلة المقبولة والمعقولة. بل دليله هو قول فلان أو فلان ، وستفاجئك الحقيقة كثيرأ حين تكتشف : عدم صحّة النسبة وعدم صدق وتتطابق النقل .

إلى جانبه سيل من التجريح ، وطوفان من الإهانات ، والسباب الممنهج والمميّز ، في عملٍ إرهابيٍّ قويٍّ مدمّرٍ ، وصاعق ماحق ، يختار مفرداته من قاموس مصطلحاتٍ خاصٍّ به ، ويا ليتك تراه وهو يتألّق ويتأنّق عندما يصف أهل الحقّ والملتزمين بالخطّ الإيماني الصحيح ، وعلماء الأُمّة ومراجع الدين بالتخلّف ، والعُقدة ، وبالحمار يحمل أسفاراً ، وبالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، وينسبهم إلى المخابرات الأمريكية ، والموساد ، ويصفهم بأنّهم يكذبون ، ويحرِّفون الكلام عن مواضعه ، وأنّهم ـ حتّى مراجع الدين منهم ـ بلا تقوى ، وبلا دين ؟! وهلمّ جرّا …

ولكنّ الأمر بالنسبة إليه يختلف تماماً ، حيث إنّه هو وحده المنفتح ، المتوازن ، العاقل ، المفكّر ، المجدّد ، ورجل الحوار ، وسطِّر ما شاءت لك قريحتك ، واجترحه وهمك ، ولامسه خيالك ، فتبارك الله أحسن الخالقين .

وما أروع ، وما أحلى كلمة الحوار ، وهو يديرها في فمه ، وكأنّها قطعة حلوى ، تفيض بالعذوبة ، وتتقاطر منها الرقّة ، يلملم أطرافها اشتهاء عارم ، وما أرقاه من حوارٍ قرأت آنفاً بعض مفرداته ، وتلك هي حالاته ، يرفض فيه مدّعيه ولو أن يكتب حرفاً واحداً ، ثمّ يرفض مناقشة أيّة فكرةٍ من أفكاره ، أمام ثُلّةٍ من العلماء ، ليكونوا هم الحَكَم والمرجع ، بل هو ، ويصرّ على أن يكون حواراً في بيته ، وخلف الجدران ، والأبواب الموصدة ، ممهّداً له بتلك الأوصاف وبغيرها ممّا يطلقه على مخالفيه وناصحيه .

فبُورك من حوار ، وحيهلاً بداعيته ، وحامل لوائه ، ومُطْلِق شعاراته !!

ثمّ هو يشفع ذلك بالظهور ، بلباس الصفح والتسامح ، وبالمواعظ الرقيقة ، الراعفة بالحنان ، على نعشٍ من موسيقى صوته الذي يتماوج بين حالتي الخفوت الرومنسي الحالم ، والجهر السادي الراعد ، إلى أن ينتهي الأمر بقراءته ( التقوائيّة!! ) للآية الشريفة ، التي تجعل حاله مع مَن يقدم على الإرشاد إلى مواضع الخلل في آرائه كحال رسول الله ( ص ) مع المشركين ، حيث يقول : بصوتٍ رقيقٍ ، وأنيق ، وبالإنصات له حقيق : ( اللّهمّ اهد قومي فإنّهم لا يعلمون ... )

الثالثة : إنّ هذا النوع من الناس الذي ربّما لم يمارس أيّ عملٍ علميٍّ تحقيقي ، اللّهمّ إلاّ ما حاول أن يتخفّى خلفه ممّا يختلسه من هنا وهناك ، من أدلّةٍ واهيةٍ ، لأقوال وأفكار خاطئة وشاذّة ، يستخدمها للتغطية على واقعٍ له لا نُحبّ توصيفه !! ـ إنّه ـ يستخدم أُسلوب إغراق الساحة بأسرها بسيلٍ من الأوامر ، وبطوفان من الزواجر ، والتوجيهات الفوقيّة التي تعني غيره فقط !! ولا تعنيه هو بشيء ، فتجده في مناسبة ، وبلا مناسبة لا يزال يردّد قوله :

إنّ علينا أن ...

ويجب علينا أن ...

ولابُدّ لنا من ...

وهلمّ جرّا ...

وتأتي هذه الأوامر والزواجر ، بعد هجمات ساحقة ، وحملات ماحقة ، على هذا الذي يسمّيه بالشرق المتخلّف ، وعلى المجتمع المسلم الجاهل والمعقّد ، إلى آخر مفردات قاموسه التي أصبحت معروفةً ومألوفةً ... وما أكثر الأدلّة على ما نقول .

ولعلّ أكثرها طرافةً هو ما سوف نواجهه من لومٍ وتقريعٍ واتّهامٍ من قِبَل محبّيه ، لأجل عين هذه الكلمات التي تدلّ بنفسها على صاحبها الحقيقي ، حيث سيعتبرونها ـ بصورةٍ عفويّةٍ ـ موجّهة إليه دون سواه ، مع أنّنا لم نصرّح باسمه ، ولا أشرنا إلى كتابه ، ولا إلى غير ذلك ممّا يرتبط به .

 

الغاية تبرّر الواسطة عنده :

والغريب في الأمر ، أنّه يهاجم المنبر الحسيني ، وخطباءه ، بنفس الحدّة والشدّة ، ويتّهمهم بالكذب والتزوير ، وما إلى ذلك ممّا تقدّم ، مع أنّه يقول : ويا لسوء هذا القول وسوء آثاره ؟ ... إنّ الغاية تبرّر الوسيلة أو الواسطة ، لا بل تنظّفها !!!

بل هو يسجّل هذه القاعدة للناس في كتبه ومؤلّفاته ، ويُلفت الأنظار إليها في خُطَبَه ومحاضراته ، ويحاول تركيزها في عقولهم المرّة تلو المرّة .

وهي قاعدة خطيرة بما تمثّله من دعوةٍ للنّاس ـ وخطباء المنبر منهم ـ إلى أن يمارسوا العظائم والموبقات ، في سبيل الوصول إلى غاياتهم ، ويصبح الكذب والتزوير والتحريف ، وأيّ أُسلوبٍ آخر أهون تلك الوسائط النظيفة ، التي يجوز لهم أن يمارسوها ، وأن يتقرّبوا بذلك إلى الله سبحانه وتعالى ، ما دام أنّ الغاية شريفة ، ونبيلة ، ومقدّسة ، وما دام الشرع يريدها ، كما هو الحال في إحياء ذكرى عاشوراء .

غير أنّنا رأينا أخيراً أنّه قد ألمح إلى تراجعه عن هذه القاعدة ، حين تحدّث عن إثبات الحقّ بأساليب الباطل ، فقال : ( إنّ الدعوة إلى الحقّ ، تفترض أن تعتبر الحقّ هو العنصر الأساس في الوسيلة ، والعنصر الأساس في النتيجة ) .

وإن كنّا لا نستطيع أن نطمئنّ إلى أنّه قد تراجع حقّاً ، وذلك لكثرة التناقضات التي اعتدنا صدورها منه ، مع إصراره على إلزام الآخرين بكلّ أطرافها ، مع وضوح تناقضها لدى الجميع .

 

التوطئة والتمهيد :

ومهما يكن من أمر ، فقد أُثيرت حول كربلاء ، وأحداثها ، وما سبق ولحق ممّا له ارتباط بها ـ أُثيرت ـ ولا تزال ، عاصفة من التشويه المتعمَّد ، المستند إلى زعم تسلّل عنصر الخرافة والكذب إلى ما يُنقل من أحداثها ... وقد يدّعون أنّ للشهيد مطهّري مساهمة قويّة في هذا الاتجاه .

وقد أحببنا أن نسجّل موقفاً ممّا يجري ، لعلّ الإمام الحسين (عليه السلام) ينظر إلينا نظرة الرحمة في يوم الشفاعة ...

ولكنّنا قبل أن نبدأ الحديث عمّا قيل إنّه مكذوب وخرافة في حديث كربلاء ، وقبل أن نناقش ما نُسب إلى الشهيد العلاّمة المطهّري حول الخرافات في عاشوراء ، ولاسيّما حول قصّة حضور ليلى في كربلاء ، التي أصبحت عنواناً ، ومفتاحاً ، ومدخلاً ، ومناسبةً ومبرّراً لإطلاق الاتهامات بالكذب والدجل لخطباء المنبر الحسيني ...

ثمّ رمي حديث كربلاء ، ومنبر عاشوراء ، بالأُسطورة والخرافة ، وما إلى ذلك .

نعم ، إنّنا قبل أن نبدأ بالحديث عن ذلك ، نقدّم تمهيداً ، لعلّه يفيد في إيضاح مقصودنا ... وذلك فيما يلي من صفحات .

والحمد لله ، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمدٍ وآله الطاهرين .

 

2 ذي الحجّة 1420هجري

جعفر مرتضى العاملي

 


الفصل الأول :

للتمهيد ، وللإعداد ... فقط .

 


بداية :

إنّنا قبل أن ندخل في موضوع البحث الذي نحن بصدده ، نودّ التأكيد على عدّة أُمورٍ ترتبط ـ بشكلٍ أو بآخر ـ بموقفنا من أحداث كربلاء ، وبطريقة تعاملنا مع ما يُنقل لنا من أحداث عاشورائيّة ، أو غيرها ، وذلك ضمن النقاط التالية :

 

الاستهجان لا يصلح أساساً للرفض :

بديهيٌّ أنّ مجرّد استهجان أمرٍ من الأُمور لا يصلح دائماً أساساً لردّه ، والحكم عليه بالبطلان ، إلا إذا نشأ هذا الاستهجان من آفةٍ حقيقيّةٍ يعاني منها النصّ في مدلوله ، تُوجب إثارةَ حالةٍ من الشكّ والرّيب فيه .

أمّا إذا كان منشأ هذا الاستهجان هو عدم وجود تهيّؤٍ نفسيٍّ وذهنيٍّ لقبول أمرٍ ما ، بسبب فقد الركائز والمنطلقات ، التي تساعد على توفّر مناخ الوعي والاستيعاب للحقائق العالية ، والمعاني الدقيقة ... فإنّ هذا الاستهجان لا يصلح أساساً لإيجاد ولو ذرّةٍ من الشك ، والرّيب ، والتردّد في صدقيّة النصّ ، أو في أيّ شيءٍ ممّا يرتبط به .

ولنأخذ مثالاً على ذلك : تلك الأُمور التي ترتبط بمقامات الأولياء والأصفياء ، التي يحتاج وعيها وإدراك آثارها بعمقٍ إلى سبق المعرفة اليقينيّة بمناشئها ومكوّناتها .

وكذلك الحال فيما لو استند هذا الاستهجان إلى افتراضاتٍ غير واقعيّة ، فيما يرتبط بالمؤثّرات ، والبواعث ، والحوافز لنشوء حدثٍ تاريخي مّا .

وفي كلتا هاتين الحالتين ، فإنّ المطلوب هو الإعداد الصحيح ، والتشبّث بالمعرفة اليقينيّة لكلّ العناصر المؤثِّرة في تكوين التصوّر السليم ، بعيداً عن أسر التصوّرات الارتجاليّة والخاطئة ، التي تدفع إلى الاستهجان غير المسؤول ، ثمّ إلى الرفض غير المنطقي ولا المقبول .

وإنّ الإعداد القوي والرصين لإنجاز عملٍ معرفيٍّ ، وتربية إيمانيّة ، وروحيّة ، وإعداد نفسي ، يهيئ لتحقيق درجةٍ من الانسجام بين المعارف الإيمانيّة ويقينيّاتها ، وبين ما ينشأ عنها من آثار وتجليّات في حركة الواقع ، وفي الوعي الرسالي للأحداث ، نعم ، إنّ الإعداد لإنجاز هذا المهمّ يعتبر أمراً ضروريّاً ولازماً ، وله مقام الأفضليّة والتقدّم بالقياس إلى ما عداه من مهام .

وبدون ذلك ، فإنّنا سنبقى نواجه حالة العجز عن التعبير الصادق والصريح عن تجليّات الواقع ، واستجلاء آفاقه الرحبة .

 

الصفحة اللاحقةالصفحة السابقة